أفلح الاقتصاد الأسترالي في الصمود أمام جميع الصعاب والتحديات التي واجهها العام الماضي، لكن يبدو أنه استنفد الآن كل طاقاته ولم يعد قادرا على مواصلة المواجهة ولم يعد يتبقى له إلا رفع راية الاستسلام.
في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام لم يتجاوز معدل النمو للاقتصاد الأسترالي 0.2 في المائة، وتلك أضعف نسبة نمو محققة منذ الانكماش الاقتصادي خلال فترة الإغلاق بسبب جائحة كورونا، وإذا استمر النمو الاقتصادي بهذا المعدل فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي هذا العام لن يتجاوز في أفضل تقدير 0.8 في المائة.
بل الأخطر أن معدل النمو الاقتصادي في أستراليا آخذ في التراجع، فمن 0.8 في المائة في الربع الثاني من العام الماضي إلى 0.6 في المائة في الربعين الثالث والرابع في عام 2022، والآن في الربع الأول من عام 2023 لم يتجاوز النمو 0.2 في المائة.
في اللحظة الراهنة يوجه الأستراليون أصابع الاتهام إلى فيليب لوي محافظ البنك الاحتياطي ومجلس إدارته، ويحملونه مسؤولية ما آل إليه الوضع، بل إن بعضهم لا يتوانى في اتهامه بأنه وفريقه يريدون إلحاق مزيد من الضرر بالاقتصاد.
فالرجل وخلال 14 شهرا رفع معدل الفائدة 12 مرة، والنتيجة ارتفاع أسعار المنازل لثلاثة أشهر متتالية – آذار (مارس) ونيسان (أبريل) وأيار (مايو) – وحدث تباطؤ كبير في إنفاق الأسر، حيث إن بعضها يعاني ضغوطا معيشية مؤلمة.
ومنذ بدء بنك الاحتياطي الأسترالي في رفع أسعار الفائدة في أيار (مايو) 2022، تضاعف معدل الفائدة على الرهن العقاري الجديد مضيفا ما يقرب من ألف دولار شهريا إلى تكلفة منزل بقيمة 600 ألف دولار.
بالطبع الوضع الاقتصادي العالمي بات أكثر تعقيدا وأكثر صعوبة خلال الأعوام القليلة الماضية، وبالطبع أيضا فإن أستراليا ليست بمعزل عن ذلك، ولم تكن ككثير من البلدان محصنة لمواجهة تلك التحديات، لكن الخطر يكمن في أن معدل النمو الاقتصادي سيكون أقل من معدل النمو السكاني ما يعني تراجعا في مستوى المعيشة.
لكن هل يمكن فهم طبيعة التحديات الاقتصادية الداخلية التي تواجه أستراليا بمعزل عن سلوكها الاقتصادي الخارجي، حيث تعد التجارة الخارجية عنصرا مركزيا بالنسبة إلى الاقتصاد الأسترالي، وتمثل الصادرات أكثر من 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؟
الدكتور كامدن ماثيو أستاذ التجارة الدولية السابق في جامعة أكسفورد يرى أن الأزمة الاقتصادية الأسترالية تأتي في جزء منها تعبيرا عن السلوك “اللامنطقي” لكانبيرا في مجال العلاقات الاقتصادية والاستثمارية الخارجية.
ويقول لـ”الاقتصادية”، “تبدو الأرقام في أحيان كثيرة خادعة وزائفة إذا لم ندخل في تفاصيلها، فللوهلة الأولى نجد أن ما يقرب من 65 في المائة من التجارة الثنائية لأستراليا تتم مع دول في آسيا، وأكبر خمسة شركاء تجاريين لأستراليا هم الصين والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة، ويتدفق أكثر من نصف إجمالي صادرت أستراليا إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وهي دول آسيوية”.
ويضيف “ولكن إذا تعمقنا في التفاصيل فسنجد أن أستراليا تقع جغرافيا على مرمى حجر، إذا جاز التعبير، من بلدان جنوب شرق آسيا لكن التعاون الاقتصادي بينهما لا يعكس في أجزاء كثيرة منه تلك الحقيقة الجغرافيا، وهنا يمكن أن تضع في اعتبارك إحصائيتين، الأولى تمتلك أستراليا استثمارات دولية مباشرة في نيوزيلندا أكثر من استثماراتها في الدول العشر الأعضاء في منظمة آسيان، ثانيا دولتان فقط من جنوب شرق آسيا أصبحتا ضمن أكبر عشرة شركاء تجاريين لأستراليا، ومن ثم تضيع أستراليا فرصة اقتصادية ضخمة وعظيمة لتحقيق مكاسب اقتصادية عبر تعزيز علاقتها الاقتصادية مع الاقتصادات الناشئة في جنوب شرق آسيا”.
ويتابع “تحتاج أستراليا إلى إدراك الفوائد المهمة المحققة من النمو الآسيوي والاستعداد للاستفادة منه، وهذا يتطلب تغييرا في منطق التفكير السائد في كانبيرا، والحاجة إلى إصلاحات محلية داخل أستراليا لإزالة الحواجز التي تحول دون مشاركة اقتصادية واستثمارية فعالة مع آسيا، وأن تدرك أنها جزء من المنطقة وليس ممثل الغرب والولايات المتحدة مع آسيا”.
وجهة النظر تلك تجد استحسانا من الباحث الاقتصادي إيان ساثرلي الذي يرى أن أستراليا عبارة عن اقتصاد صغير مفتوح يعتمد بشكل كبير على التجارة من أجل رفاهيته الاقتصادية، حيث إن التقلبات الدولية في أسعار السلع العالمية والأجندة الدولية لإزالة الكربون والتوترات التجارية مع الصين والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية تمثل جميعها عوامل ضغط على الاقتصاد الأسترالي وقدرته على النمو.
ويقول لـ”الاقتصادية”، إن “خام الحديد والفحم والغاز الطبيعي هم أكبر ثلاثة صادرات في أستراليا، ويشعر بعض الخبراء بأن ملف التصدير الأسترالي يفتقر إلى التنوع والتطور، ما يعكس السطحية الاقتصادية – إذا جاز التعبير – التي يعانيها الاقتصاد الأسترالي، ويتركه عرضة للتوترات التجارية مع الصين، والتغييرات في الظروف الاقتصادية المحلية الصينية، والتقلبات في أسعار السلع الأساسية العالمية”.
ويضيف “من المؤكد أن الحرب الروسية – الأوكرانية تسببت في صدمة كبيرة في أسواق السلع الأساسية، فروسيا أحد المصدرين الرئيسين للمواد الخام، بما في ذلك الغاز الطبيعي والفحم والنفط الخام والقمح، حيث أدت الحرب والعقوبات الاقتصادية المرتبطة بها إلى تعطيل الإمداد بهذه المواد الخام ورفع أسعارها.
وأدت أسعار الفحم والغاز المرتفعة حاليا إلى تحفيز وتسريع التحركات الاقتصادية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لإعطاء الأولوية لاستقلال الطاقة عن طريق تطوير مصادر الطاقة التقليدية الخاصة بها، أو التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، ما يضر بصادرات الفحم والغاز الأسترالية”.
وفي هذا السياق، تعلق جوليانا ماتيو الباحثة الاقتصادية قائلة “الزخم العالمي طويل الأجل نحو إزالة الكربون له آثار صعبة في ملف التصدير الحالي لأستراليا، إذ تصدر أستراليا 90 في المائة من إنتاجها من الفحم، ومعظم عملائها من دول المحيطين الهندي والهادئ، ولا سيما اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند وجميعهم بات لديهم الآن تعهدات دولية للوصول إلى صافي صفر من الانبعاثات الغازية”.
وتضيف “لهذا يحذر بعض الاقتصاديين الأستراليين من احتمال فقدان الوظائف الأسترالية في صناعات التصدير المعتمدة على الوقود التقليدي والمعرضة للتجارة إذا استمرت الدول الأخرى في اتباع سياسة إزالة الكربون”.
مع هذا فإن أغلب التقديرات الواقعية تشير إلى أن صناعة الوقود التقليدي ستظل مساهما مهما في الاقتصاد الأسترالي إلى ما بعد عام 2030، ويعتقد أن محطات الطاقة الجديدة التي تعمل بالفحم والغاز والتي هي قيد الإنشاء في آسيا ستوجد بشكل كبير طلبا مقيدا على الوقود الأسترالي.
كان للإغلاق الصيني الصارم لمواجهة فيروس كوفيد والتباطؤ الاقتصادي الصيني تأثير ملحوظ أدى إلى خفض الطلب على السلع الأسترالية، ومع تراجع قطاع البناء في الصين انخفض الطلب على خام الحديد الأسترالي، والصين هي أكبر شريك تجاري لأستراليا حيث استحوذت على ما يقرب من 82 في المائة من إجمالي قيمة صادرات خام الحديد الأسترالية قبل عامين.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد فالتوترات التجارية التي يغذيها التنافس الجيوسياسي بين البلدين يهدد بعرقلة العلاقة الثنائية وإخراجها خارج مسارها الذي يعود بالفائدة عليهما، ففي الأعوام الثلاثة الماضية ونتيجة المواقف الأسترالية مفرطة التأييد للمواقف الأمريكية المعادية للصين، حظرت الصين أو زادت التعريفات الجمركية على مجموعة واسعة من السلع والخدمات الأسترالية، بينما كانت تبحث عن مصادر بديلة لخام الحديد والفحم.
بدوره، يقول لـ”الاقتصادية”، إل.دي. روجر الباحث في العلوم السياسية “يجب أن تدرك أستراليا أن الصين أكبر من أن تنبذ أو يتم تطويقها، ويمكن أن تتعلم أستراليا من اليابان وإندونيسيا إمكانية الحفاظ على علاقات تجارية مع الصين رغم الاختلافات الأيديولوجية. لكن يبدو أن العلاقة بين البلدين تتجه لمزيد من التوتر والتقلص التجاري والاقتصادي، وهذا لن يعود على أستراليا بالفائدة وربما يعمق أزمتها الاقتصادية الراهنة”.