تستخدم البنوك المركزية السياسات النقدية للتأثير في الاقتصاد وتوجيهه في الاتجاه المناسب. وتسعى تلك البنوك -قدر المستطاع- إلى تحفيز النمو حتى بلوغ الاقتصاد التوظيف الكامل للعمالة، مع استهداف معدل تضخم منخفض يكون عادة في حدود 2 في المائة. لكن استخدام الأدوات النقدية لتحفيز الاقتصاد قد يقود في بعض الأحيان -ودون قصد- إلى زيادة معدلات التضخم فوق المعدلات المستهدفة، ما يستدعي فرملة الاقتصاد لاحقا باستخدام الأدوات النقدية بطريقة معاكسة، كرفع معدلات الفائدة أو وسائل خفض السيولة ورفع تكاليف الائتمان.
نظرا لتأخر تأثير الأدوات النقدية في النشاط الاقتصادي، وصعوبة التعرف مقدما على حجمها المناسب واللازم لتنشيط الاقتصاد أو كبحه دون رفع معدلات التضخم، أو التسبب في كساد الأسعار، تواجه البنوك المركزية مخاطر عدم كفاية المحفزات النقدية أو إثارتها لموجات تضخم مستقبلية. وتلام البنوك المركزية العالمية على استخدامها محفزات نقدية أقل مما يجب لمواجهة الأزمة المالية العالمية في 2008، ما قاد إلى نمو اقتصادي منخفض في الأعوام التالية. كما تلام حديثا من المبالغة في التحفيز النقدي الذي تسبب في صعود معدلات التضخم العالمية بعد أزمة كورونا.
تولدت عن التحفيز النقدي والمالي الهائل -الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ- لمواجهة أزمة كورونا موجة تضخم عالمية ما زالت مستمرة حتى الآن. وتأخرت البنوك العالمية المركزية في التصدي لموجة التضخم ظنا منها بأنها عابرة مما عمقها ورفع تكاليف التصدي لها. وقد اضطرت البنوك المركزية العالمية، وأهمها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لاحقا، إلى رفع معدلات الفائدة الأساسية بسرعة في عشر مرات متتالية، واستخدمت الأدوات النقدية الأخرى المساندة للضغط على السيولة ورفع تكاليف الائتمان. وبدأت آثار تلك السياسات تظهر في الدول المتقدمة، حيث تراجعت سخونة اقتصاداتها وبدأت معدلات التضخم الأساس في التراجع، لكن معدلات النمو الاقتصادي أيضا تراجعت.
بعد السلسلة الطويلة من رفع الفائدة الأساسية، أبقى مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي معدلاتها دون تغيير في اجتماعه الأخير الذي عقد هذا الشهر. وتراوحت معدلات الفائدة الأساسية الحالية بين 5 و5.25 في المائة، وهي أعلى معدلات خلال 16 عاما. ولا تقتصر تأثيرات رفع الفائدة الأمريكية في اقتصاد الولايات المتحدة الداخلي، بل تمتد آثارها الواسعة إلى معظم أرجاء العالم. ويولد رفع معدلات الفائدة الأمريكية آثارا واسعة عبر العالم، حيث تضطر المصارف العالمية الأخرى، إلى رفع معدلات الفائدة، كما يزداد تدفق رؤوس الأموال إلى الولايات المتحدة. وهذا يؤثر في السيولة العالمية، ويرفع تكاليف الاقتراض عالميا، ويعرض دولا متعددة لأزمات ديون، ويبطئ بالتالي آفاق النمو العالمي، وكذلك يؤثر سلبا في أسعار السلع العالمية.
قد يرجع إبقاء معدلات الفائدة الأمريكية الأساسية دون تغيير إلى حذر الاحتياطي الفيدرالي من خفض غير مبرر للنشاط الاقتصادي، وكذلك تجنب ظهور ضغوط متزايدة على القطاع المصرفي وربما التسبب في تسريع بعض الانهيارات المصرفية. وكان الهدف الأساس من رفع معدلات الفائدة الأساسية هو تهدئة الاقتصاد والحد من الضغوط التضخمية. وحظي الاقتصادان الأمريكي والعالمي حتى قبل بداية العام الماضي، بفترة طويلة من تراجع تكاليف الاقتراض، التي اختفت بعد سلسلة زيادات الفائدة الأخيرة. وتعد معدلات الفائدة الحالية مرتفعة مقارنة بـمعدلاتها منذ الأزمة المالية العالمية. ويأخذ تأثير زيادة معدلات الفائدة وقتا من الزمن، لهذا فمن المنطق إعطاؤها بعض الوقت لتحقيق أهدافها وتجنب ولادة ركود اقتصادي. كما قد يعود ترك المعدلات دون تغيير لإعطاء البنوك المركزية والتجارية والمقترضين بعض الوقت للتكيف مع السياسات النقدية الحالية.
تساعد المؤشرات الاقتصادية البنوك المركزية في صنع قراراتها. وتركز البنوك المركزية بشكل أساس على مؤشرات التضخم العامة، والتضخم الأساس بدرجة أكبر، وكذلك معدلات نمو الأجور، ومعدلات النمو الاقتصادي. وشجع تراجع معدلات التضخم الأمريكي في الشهر الماضي إلى أقل مستويات منذ آذار (مارس) 2021 مجلس الاحتياطي الفيدرالي على اتخاذ خطوة تجميد زيادات الفائدة. وكان هدف المجلس الأساس من زيادة معدلات الفائدة هو كبح التضخم. وتراجع معدل التضخم العام السنوي إلى 4 في المائة في أيار (مايو) 2023 بعدما كان 4.9 في المائة في الشهر السابق، وأقل بكثير من أعلى مستوى بلغه خلال الآونة الأخيرة والمسجل في يونيو 2022 البالغ 9.1 في المائة. أما معدل التضخم الأساس الذي تستبعد منه أسعار الطاقة والغذاء المتقلبة، فقد تراجع أيضا إلى أدنى مستوى له منذ نهاية 2021، حيث وصل إلى 5.3 في المائة في مايو الماضي. من جانب آخر، قد يكون تجاوز معدلات نمو الأجور السنوية -التي تعد أحد أبرز مسببات التضخم- لمعدلات التضخم العامة لأول مرة منذ عامين دافعا لإبقاء معدلات الفائدة المرتفعة عند مستوياتها الحالية.
يتوقف طول فترة تريث السياسات النقدية على تطورات المؤشرات الاقتصادية المستقبلية. ويظهر مبدئيا أن الضغوط التضخمية آخذة في الانحسار، لكنها لن تتراجع إلى المستويات المستهدفة البالغة 2 في المائة لفترة من الزمن لا تقل عن عامين إلى ثلاثة أعوام. لهذا يمكن القول إن زمن الائتمان الرخيص قد ولى إلى حين، وليس من المتوقع تراجع معدلات الفائدة إلى مستويات منخفضة في المستقبل القريب، وعلى العالم التكيف مع الواقع الجديد.
*نقلا عن صحيفة “الاقتصادية”.
تنويه:
جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.