في تمرين العُقلة، ينزل جسدك معلقاً بيديك، ثم يجتهد ليصعد بثقله عليهما. في تمرين العُملة، تهبط قيمتها معلقة بأذرع اقتصادك، ثم تجتهد لتصعد مرفوعة بقوته. في الحالتين لا بد أن يكون الصعود والهبوط تدريجياً.
أحياناً تهبط ثم تعجز عضلاتك الاقتصادية عن رفعك، مهما بذلت من جهد. يسمى هذا في لغة التدريب fail أو فشل. وهو ليس شيئاً سيئاً على إطلاقه. يدُلُّك أن جهدك وصل إلى منتهاه. والحقيقة أنه مطلوب في دورة النمو العضلي. إن منحت الجسم راحته المستحقة، وتغذيت جيداً، ستعود في الزيارة القادمة أفضل وأقوى. أما الآن، في هذه الحصة التدريبية، فلا بد أن تنزل إلى مستقر، وأن تعطي عضلاتك فرصة لالتقاط الأنفاس. هذه الطريقة الوحيدة لكي تحاول من جديد. لا تَبقَ معلقاً بين البار والأرض، وإلا أجهدت عضلاتك بلا طائل. لا صعوداً أحرزت، ولا راحة حققت.
العُملة المجهدة مجرد عَرَض لاقتصاد مجهد. إن كان الاقتصاد قوياً فهو عرض طبيعي، يعيد التوازن. ترتفع قيمة العملة فتحجز الفائض عن دخول السوق، وتنخفض فتجذب إليه ما يسد فراغات فيه. وإن كان الاقتصاد ضعيفاً، بحيث لا تتحرك العملة إلا في اتجاه سفلي، خارج عن السيطرة، فالمشكلة ليست العُملة، المشكلة الاقتصاد. النزول إلى الأرض ليس المشكلة التي علينا تجنبها، بل المشكلة موجودة في بنية الجسم الاقتصادي. بمعنى أن التركيز على رفع قيمة العُملة لن يحل المشكلة الاقتصادية أبداً، ولن يتركها في حالها، بل سيفاقمها. سيجهد عضلات الاقتصاد بلا طائل، ويؤخر صعوده، كما يجهد التعلق عضلات اليدين، ويؤخر عودتها إلى المحاولة. التركيز على العُملة، لا الاقتصاد، يشبه الاهتمام بمكيجة البشرة لا بنضارتها. لا بأس من الماكياج مؤقتاً حتى نحسن الصحة العامة. أليس كذلك؟ بلى. بشرط ألا يأتي الماكياج على حسابها. ألا يستنزف الثروة التي ينفق منها المرء على طعام صحي، وعلى الجيم، وعلى الحصول على قسط كافٍ من النوم والراحة. كيف ينطبق هذا على سياسات العملة؟ دعم قيمة العملة المحلية معناه في عالم الاقتصاد الحقيقي دس مثقال معين – مهما كان ضئيلاً – من الذهب في كل وحدة منها. وهذا يعني استنزاف ثروة طائلة إضافية إن أردت تلبية كل المبادلات المطلوبة مع العملات الأجنبية، بالسعر المحدد. هذا طريق رقم واحد. الطريق رقم اثنين، أن تحدد السعر، لكن العملات الأجنبية تنحسر عن السوق، وتعجز عن توفية طلبات التبادل. أي يذهب الفرد إلى كاونتر البنك ويطلبها بالسعر المحدد ولا يجدها. يرهق هذا الاقتصاد أكثر وأكثر. يجعل من الصعب على الاستثمار المحلي الحصول على عملة أجنبية يستورد بها المواد الخام اللازمة، فيفشل ويسرح عَمَالة. ويجعل المستثمر الأجنبي عاجزاً عن تحويلٍ سلس للعملة يحتفظ له بقيمة استثماره. حتى المواطنون العاديون الذين احتفظوا بمدخرات بالعملة الصعبة سيجدون صعوبة في صرفها قبل أسفارهم، أو تحويلها إلى أبنائهم في الخارج، وهو الغرض الأساسي الذي ادخروا لتحقيقه. وسيحجمون عن ادخار المزيد منها في النظام المصرفي. وسيثنيهم ذلك أيضاً عن شراء أصول داخل البلد، لأنها ستتطلب منهم تسييل قدر من مدخراتهم أكبر مما يجب. هذه التفاصيل تجعل المشكلة الاقتصادية تتفاقم، بينما أحاول التعامل مع مشكلة العملة. بصيغة أخرى، بينما أتعامل مع العَرَض أفاقم المرض. هل تتوقف الدورة السلبية عند هذا الحد؟ ليتها. إن كنتُ بالفعل أنفقتُ الكثير لكي أجهز الأجواء للاستثمار فالخسارة ستكون مضاعفة. زرعت ولم أحصد. أرسلت الدعوات وجهزت الضيافة ثم انقضت الليلة قبل أن تتم الصفقة.
وأنا واعٍ بأن قطاعاً من القراء، إذ يرون هذا الكلام المبسط، يقولون في أنفسهم، وهل تعتقد يا كاتب أنك تفهم في الاقتصاد أكثر من الخبراء؟ والحقيقة لا. لست خبيراً اقتصادياً من أساسه. ولا أقلل من مشكلة العملة. إنما أحاول لفت الأنظار إلى مكان المشكلة الحقيقي. الاقتصاد الحديث علم كالفيزياء الحديثة والفلك الحديث. علم خضناه متأخرين عن العالم. ولا نزال نتعامل معه بريبة كما نتعامل مع البيولوجيا والجيولوجيا والفلك بريبة. ولا نزال نبحث عما يبقينا في منطقة الإحساس بالأمان، لا في منطقة الأمان. ولا نزال نعتقد أن العجلة يمكن تصميمها بشكل آخر غير الدائري.
كما أنني أعذر السياسيين. أكتب عن المشكلة كطبيب يتعامل مع حالة. وليس كمسؤول صحة عامة يتعامل مع مجتمع بحاله. من لا يفهم في الاقتصاد يمكنه ملاحظة وضع العُملة، كما أن من لا يفهم في الطب يمكنه ملاحظة أن فلاناً «وشه مخطوف» وهزيل. هذا يجعل العُملة، ولو على حساب الاقتصاد، مفردة مثالية للمانشيتات، ومحل اهتمام من الجميع. زد على ذلك أيضاً الثقافة الاشتراكية المهيمنة على منطقنا وكأنها تضبيطات المصنع. وهي ثقافة دوَّامية حين يأتي الأمر للاقتصاد. كلما واجهت مشكلة هربت إلى موقع أسفل منها. تتعامل مع مشكلة الفقر بتقديم مزيد من الدعم، فتشجع المستهلكين على مزيد من القرارات غير المسؤولة، وتتفاقم المشكلة أكثر وأكثر. في حالة العُملة، والإصلاح الاقتصادي، فإن كثيراً من الأصوات المعارضة أيضاً تطالب بمزيد من مسببات الداء، لا الدواء. لا بد من «إكمال كورس العلاج»، لأن التوقف في منتصف الطريق يحول الميكروبات الاقتصادية إلى صور أكثر تعقيداً، وأكثر مقاومة للمناعة الطبيعية وللمضادات الحيوية. مزيدٌ من مسكنات العُملة سيزيد تدهور الجسم الاقتصادي.